بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
فقد وردتني اتصالات كثيرة تفيد بأنَّ عدداً من المصلين رأوا هلال شهر رجب يوم الجمعة (ليلة السبت) حال خروجهم من صلاة المغرب ظاهراً بيناً كبيراً، وطالبوا بتصحيح خطأ دار الإفتاء في إعلانها يوم الجمعة هو المتمم لشهر جمادى الآخرة، وقالوا: إن الصواب أنَّ الجمعة هو الأول من شهر رجب؛ إذ لا يمكن أن يكون الهلال الذي رأوه هو هلال الليلة الأولى، بل هو قطعاً لليلة الثانية؛ لكبر حجمه وظهوره.
وللإجابة عن هذا الإشكال أقول: إنَّ العبرة في دخول الشهر وخروجه بالرؤية، فمتى رأينا الهلال حكمنا بدخوله بغض النظر عن حجمه وظهوره وخفائه. فإذا تمَّ تحري الهلال يوم الخميس (ليلة الجمعة) وهو التاسع والعشرين من جمادى الآخرة ولم نره أتممنا الشهر ثلاثين، ولم نحكم بدخول شهر رجب. وإذا ظهر كبيراً الليلة التي تليه لم يكن ذلك دليلاً على خطأ ما حكمنا به الليلة التي قبله.
وقد حصل مثلُ هذا في زمن الصحابي الجليل عبد الله عباس رضي الله عنهما، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي الْبَخْتري سعيد بن فيروز قال: "خرجنا للعمرة، فلمَّا نزلنا ببطن نخلةٍ، قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث. وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس، فقلنا: إنا رأينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين؟ فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال: فقلنا ليلة كذا وكذا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله مدَّه للرؤية، فهو لليلة رأيتموه". وفي رواية: فقال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أمدَّه لرؤيته، فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة".
ففي هذه القصة اختلف أصحاب أبي البختري في الهلال هل كان لليلتين أم ثلاث، وما ذلك إلاَّ لأنَّه كبير ظاهر، فلمَّا سألوا ابن عباس رضي الله عنهما بيَّن لهم أنه لا عبرة بحجم الهلال، وإنَّما الحكم منوط بأول ظهوره بغض النظر عن حجمه، وأنَّ الله سبحانه قد يمد زمن مكوث الهلال في الأفق حتى يكون ظاهراً جلياً.
قال ابن الجوزي في كشف مشكل الصحيح: "معنى الحديث: لا تنظروا إلى كبر الهلال وصغره، فإنَّ تعليق الحكم على رؤيته، فإن أغمي يعني ليلة رمضان فأكلموا العدة أي عدة شعبان".
وقال الملا علي قاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: "والمعنى: رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة، ولا عبرة بكبره، بل ورد أنَّ انتفاخ الأهلة من علامات الساعة".
والتفسير العلمي لهذا: أنَّ للقمر أطواراً، تبدأ بالمحاق وهي اللحظة التي يلتقي فيها القمر والشمس والأرض على استقامة واحدة، وتسمى بالاقتران، أو الولادة الفلكية للشهر، ولا يمكن رؤية القمر في هذا الطور؛ لصغر حجمه وقربه من الشمس وعدم قدرته على عكس أي من أشعة الشمس على الأرض.
ثم يكون هلالاً، وهي اللحظة التي يبتعد فيها القمر قليلاً عن الأرض بحيث يتمكن من عكس بعض أشعة الشمس عليها ويمكن حينها رؤيته. وهي الولادة الشرعية للشهر؛ إذ أنيط الصيام والإفطار برؤية الهلال وليس بولادته.
وعلماء الفلك متفقون في تحديد لحظة الاقتران، وهي لحظة واحدة في أي موقع على الأرض. أمَّا لحظة الرؤية فهي مختلفة، ويؤثر فيها عدة عوامل، منها صفاء الجو وعدم وجود أتربة أو غبار أو سحاب، وارتفاع الهلال وبعده عن الأرض، وزمن مكثه في الأفق بعد غروب الشمس؛ إذ لا يمكن رؤية الهلال والشمس ساطعة. ويقرر علماء الفلك أنه لا يمكن الرؤية الهلال إلا بعد ولادته باثنتي عشرة ساعة على الأقل، ومنهم من يمدها إلى ثمان عشرة ساعة.
بيانات هلال رجب 1437هـ في ليبيا:
لحظة الاقتران حصلت يوم الخميس 7 إبريل 2016م الساعة 11:24 بتوقيت جرينتش أي 13:24 بتوقيت المحلي. وحيث إنَّ مكث الهلال في الأفق سيكون بين (8-12 دقيقة) في مختلف المناطق الليبية، حيث سيكون موقعه عن يسار مكان غروب الشمس مبتعداً عنه بمقدار ثلاث درجات أفقية، ومرتفعاً فوق خط الأفق بدرجتين سماويتين، وستبلغ نسبة إضاءته 0.16 % من إضاءة القمر الكامل، فإنَّ رؤية الهلال في ليبيا مستحيلة، وذلك بسبب اقتراب الهلال من الأفق ووقوعه بمنطقة وهج الشمس التي ستجعل إضاءته دون قدرة العين البشرية والمناظير الفلكية على تحسسها.
وقد تم رصد الهلال من خلال مركز الأهلة بدار الإفتاء الليبية يوم الخميس وكانت النتيجة كالتالي: لم تتم رؤية الهلال لا بالعين المجردة ولا بالمنظار، وحالة السماء كانت غائمة جزئياً، والجو مغبر جداً أو ضباب كثيف.
أمَّا يوم الجمعة 8 إبريل فيكون الهلال قد مضى عليه أكثر 30 ساعة، ومكثه في الأفق أكثر من 25 دقيقة، وسيكون موقعه مبتعداً عنه بمقدار ثلاث درجات أفقية، ومرتفعاً فوق خط الأفق بمقدار 8 درجات سماوية، وستبلغ نسبة إضاءته 02.6 % من إضاءة القمر الكامل، ولاشك أنَّها مدة كافية لامتداده ورؤيته وكأنه هلال لليلتين لا هلال ليلة واحدة. وهذا ما حصل لجموع المصلين والله أعلم.
ملاحظة: بيانات الهلال بحسب موقع المشروع الإسلامي لرصد الأهلة، وجمعية رؤية لهواة الفلك في ليبيا.